رابعة العدوية واحدة من المتصوفين الذين اتخذوا لهم منهجًا في العقيدة، ومنهجًا في العبادة، أما منهجهم في العقيدة فهو مجموعة أفكار غريبة عن الإسلام مأخوذة من الديانات القديمة كالهندوكية، والزرادشتية، والفارسية، والإغريقية، والمسيحية، وغيرها من الأديان الأخرى، ومجموعة هذه الأفكار أدت بهم إلى عقيدة معينة توهموها واعتنقوها فقالوا بالحلول، وقالوا بوحدة الوجود، وقالوا بالإشراق أو ما شاكل ذلك، ولن نناقش ما يعتقدونه الآن. فنحن نركز على رابعة بالذات وما قالته، وما نُسِبَ إليها، وما نُسِجَ حول شخصيتها من خرافات وأوهام.
لماذا نعبد الله ؟
والصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة "صوفيا" وليس كما يقولون أنه مأخوذ من الصوف لأنه كان لباس المسيح عليه السلام، فلقد رد عليهم "ابن تيمية" في رسالته عن "الصوفية والفقراء" فقال: نحن أولى بهدي محمد صلى الله عليه وسلم من هدي عيسى ابن مريم ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف ويلبس القطن ويلبس الكتان، هذا إذا سلمنا جدلًا أن عيسى عليه السلام كان ينفرد بلبس الصوف، أو كان لا يلبس شيئًا غير الصوف، "ورابعة العدوية" -كما قلت- هي واحدة من هذه المدرسة.
وحينما تقول: إنها لا تعبد الله خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته تخالف نص القرآن الكريم، وإن كانت هي بهذا تنتمي إلى مدرستها تمامًا؛ فالمدرسة الصوفية هي التي تعتبر أن الذين يعبدون الله من أجل جنة أو خوفًا من نار إنما يتعاملون مع الله، أو يعبدون الله، عبادة التجار كما أطلقوا عليها.
مع أن هذه العبادة التي يسمونها عبادة التجار هي عبادة رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه كما قال الله عنهم في سورة الأنبياء بعد أن عدد أسماءهم نبيًا نبيًا، ورسولًا رسولًا: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [الأنبياء: 90] فالله يقول عن أنبيائه: إنهم كانوا يدعونه -سبحانه وتعالى- راغبين في ثوابه خائفين من عقابه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا للأعرابي الذي جاءه وقال له: يا رسول الله، إني أسال الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة "معاذ بن جبل"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حولهما ندندن". (يعني: حول الجنة والنار)، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدندن حول الجنة والنار فكيف يتأتى لواحدة "كرابعة العدوية"، قالوا عنها أنها كانت مغنية، وقالوا عنها أنها كانت راقصة، وقالوا عنها كلامًا كثيرًا، كيف تأتى لهذه التي عاشت عمرًا في الغناء وفي الرقص.. كيف يتأتى لها أن تسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تسبق رسل الله جميعًا في المعرفة بالله والعلم به سبحانه وتعالى؟ ثم ما هذا الذي تقوله؟ إنها تعبده لذاته!، ما معنى هذا؟
وما معنى قولها في ربها في الشعر الذي نسب إليها:
أحبك حبين حب الهوى *** وحبًا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى *** فشغلي بذاتك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له *** فكشفك لي الحجب حتى أراكا
ما هي هذه الحجب التي تنتظر "رابعة" أن تنكشف لها حتى ترى الله، مع أن الله سبحانه وتعالى قال "لموسى" عليه السلام حينما قال له: { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143].
ولقد اتفقت الأمة المسلمة الواعية على أنه لا يمكن للبشر أن يروا الله سبحانه وتعالى في الدنيا؛ لأن الإنسان بحالته هذه، وهو في الدنيا لا يستطيع أن يواجه تجلي الله سبحانه وتعالى كما حدث بالنسبة "لموسى" { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا } [الأعراف: 143] فالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم مكانًا، وأعظم مكانة قال حينما سئل: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه".
ولا نلتفت لرواية الصوفية لهذا الحديث حيث رووه هكذا، قالوا "نور أنى أراه" بكسر همزة إني، وهذا مخالف لِمَا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نور أنى أراه" فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وموسى عليه السلام حينما طلب الرؤية قال الله له: { انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [الأعراف: 143]..
والصوفية لم يقفوا عند حد الأدب مع الله سبحانه وتعالى، ولم يتعلموا من موسى، وما جرى معه بل قال واحد منهم:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة ***فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
فهو يأمر الله سبحانه وتعالى أن يسمح، ثم ينهاه سبحانه وتعالى أن يجعل جوابه لن ترى كما أجاب موسى بذلك، وكذلك "رابعة العدوية" تعتقد أن الحجب ستكشف لها حتى ترى الله، ويا ليت الصوفية يتوقفون عند هذه المسألة أن يروا الله، وإنما الرؤية عندهم هو أن يحس أنه هو الله وأن الله حال فيه، هذا هو كشف الحجب.. حجب الذات.. حجب النفس بحيث يصل الإنسان منهم إلى أن يرى أنه هو الله، ولذلك كان فهمهم لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" كان الواحد منهم يقول: "لا إله إلا أنا" "أنا الله" فهو يعتقد أنه هو المقصود بكلمة "لا إله إلا الله".
ونعود مرة ثانية إلى "رابعة" وإلى ما كتب عنها الذي يقول إن رابعة هي أول من تحدث عن حب الله، هذا الإنسان يبدو أنه لم يقرأ القرآن الكريم، ولم يقرأ السنة المطهرة، ففي القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الحب فقال: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] وقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [البقرة: 165].
الفرق بين الحب والعشق:
حب الله وحب رسوله موجود في القرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يبدو أن كاتب هذه السطور يقصد حبًا آخر وهو "العشق" وليس الحب، فعلا "رابعة العدوية" ومن على شاكلتها هم أول من أطلق على محبة الله عشقًا، والعشق ما هو؟ إن العشق في أصل وضعه في اللغة العربية لما ينكح، والصوفية وضعوا هذا اللفظ لما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، اعتبروه عشيقًا كالذي يكون بين الرجل والمرأة، قد يذهل الإنسان حينما يسمع هذا الكلام، وربما اعتبر البعض أن هذا تجنيًا على الصوفية، ولكنه حينما يتابع كلام القوم وما كتبوه في باب العشق يجد أنهم ينهجون ذلك المنهج، ويقصدون هذا المنحى، ويعترفون أن علاقتهم بالله تكون على هذا المستوى مستوى الناكح والمنكوح، ولقد جاء ذلك صراحة في فصوص الحكم "لابن عربي" إذ قال: "إن الرجل حينما يضاجع زوجته إنما يضاجع الحق" وكان من الممكن أن نقول إن هذه غلطة من محيي الدين ابن عربي، أو أن لها تأويلًا آخر، ولكن جاء "النابلسي" فشرح الفصوص.
ووقف عند هذا التعبير وهو قوله "إنما ينكح الحق" وذكر الله بدلًا من كلمة الحق، وهم يرون أن العلاقة تكون بين الرجل والمرأة قوية إذا كانت في حرام، فهم يعتبرون أن الاتصال بالله يكون كما بين الزوج وزوجته، فإذا كان في حرام غير زوجته كان الاتصال أقوى. ثم نرجع "لابن الفارض" مثلًا فنجد أن "ابن الفارض" تحدث عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة؛ فهو يقول له: "أنتِ كذا أنتِ كذا أنتِ كذا" ولو رحت تسأل الصوفية لماذا تتحدثون عن الله بضمير المؤنثة المخاطبة؟ فإنهم يقولون لك: إننا لا نقصد الله، وإنما نقصد الذات الإلهية، فنحن نوجه ضمير المؤنثة المخاطبة للذات، وليس لله فنوجهها الذات الإلهية، "ابن الفارض" يقول إن الله تجلى لقيس بصورة ليلى، وتجلى لكُثَيْر بصورة عزَّة، وتجلى لجميل في صورة بُثَيْنَة في قصيدته التائية المعروفة، فهو يعترف أن هذا من تجليات الحق.