نهضة اليابان... نشوء الرأسمالية
في مقدمة العوامل التي حافظت على عزلة اليابان الاختيارية التي استمرت ما يقارب من 250 سنة، ومن ثم حافظت على استقلالها وسيادتها الوطنية, الظروف الجغرافية، كما أنها استفادت من انشغال الدول الغربية باستيعاب وإحكام سيطرتها على مستعمراتها ومناطق نفوذها في قارة آسيا القديمة الزاخرة بالثروات، وخصوصاً في مواجهة المشاكل والقلاقل التي اندلعت في الصين والهند واشتداد التنافس بين الدول الغربية، مما عرقل ومنع أية قوة غربية منفردة من اتخاذ قرار غزو اليابان، يضاف إلى ذلك ظهور وبروز الولايات المتحدة الأمريكية وطموحها لأن تلعب دوراً حيوياً في ما وراء البحار ومنطقة الباسيفيك واقتصار ذلك الدور (قبل تبلور النزعة الامبريالية لديها والتي توجتها باحتلال الفلبين وجزر الهاواي) على المجال التجاري وسياسة الأبواب المفتوحة ومعارضتها لدبلوماسية البوارج الحربية التي كانت تنتهجها الدول الغربية الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا.
حافظت تلك العزلة - رغم أنها جعلت اليابان تتأخر عن اللحاق بمستوى تطور وتقدم الغرب آنذاك- على ثقافة اليابان المتميزة التي ظلت مزدهرة، وساعد وجود لغة واحدة وتجانس عرقي واثني على ترسيخ الوحدة الوطنية وإشاعة الاستقرار النسبي في المجتمع رغم فترة الركود الاجتماعي التي مرت بها وقد أشار جورج سانسيم في كتابه العالم الغربي واليابان إلى «أن المجتمع الأوروبي لم يكن أكثر تحضراً من اليابان آنذاك ولم تكن ثقافة اليابان مقصورة على فئة معينة دون غيرها بل كانت ثقافة عامة يتقاسمها الشعب كله، لذلك اختلفت الثقافة اليابانية عن الثقافة الفرنسية التي كانت مقصورة على عدد قليل من الارستقراطية في قصر فرساي» وقد عرفت اليابان نظاماً إقطاعياً متطوراً مقارنة بالأنظمة الإقطاعية التي عرفتها أوروبا، فقد عرف حكم «طوكو جاوا» نظام تقسيم العمل والنظام البيروقراطي وهو ما لم يتسن سوى لدول قليلة مشابهة، ولم تعرف اليابان الفلسفة وعلوم اللاهوت منذ عصورها السحيقة وحتى الآن، كما أن الصراع الديني والحروب الدينية لم تعصف بالاستقرار الاجتماعي، كما لم تقف القوى المحافظة وراء دعاة الجمود ومن كانوا يتمسكون بالماضي والتقاليد البالية، ومن كانوا يحافظون على الفكر القديم، حين قاوموا سياسات الحكومة للنهوض بتحديث البلاد ومسايرة طابع العصر، وفي ظل العزلة تلك جرى الاهتمام بنظام التعليم الشعبي والعام على نطاق واسع ليشمل البلاد بأسرها، كما أدرك قادة طبقة «الساموراي» التفوق العسكري في الغرب وضرورة الحاجة إلى تحديث الجيش، مستوعبين في ذلك الهزائم التي منيت بها جارتها الصين على يد الجيوش الغربية فيما عرف بحروب أصبحت ضريبة الأطيان القاعدة التي قامت عليها الرأسمالية الأفيون (1839- 1842) والتي تم بموجبها فتح الصين أبوابها أمام البضائع والشركات والاستثمارات الغربية بما في ذلك فرض تسويق الأفيون على الشعب الصيني ناهيك عن السماح للغربيين بحرية الاستيطان وحرية التبشير. ومع أن اليابان اضطرت تحت وطأة ما عرف بدبلوماسية البوارج الحربية على توقيع معاهدة تجارية مع كل من أمريكا وهولندا وبريطانيا وروسيا وفرنسا المعروفة بمعاهدة انسي (1858) إلا أن المعاهدة خلت من فرض تسويق الأفيون وحرية التبشير في اليابان أو إقامة مستوطنات دائمة للغربيين في البلاد، رغم أنه في الفترة الواقعة بين 1863- 1875 ظلت القوات البريطانية والفرنسية متمركزة في يوكوهاما تحت ذريعة حماية الأجانب. وقد ساعدت العوامل الداخلية على انهيار الحكم الإقطاعي الذي واجه شح ونضوب موارد الشوجون والإقطاعيات مما أوقع البلاد في أزمة اقتصادية حادة، وأصبح الصراع الشعبي الذي انخرطت فيه وتزعمته قوى أساسية ثلاث، هم أصحاب الأراضي والتجار وطبقة الساموراي الأدنى رتبة وكانت تلك القوى تسعى إلى إصلاح السياسة التي انتهجها الحكام العسكريون (الشوجون) وفي أوائل الستينات من القرن التاسع عشر رفعت تلك القوى شعار «اطردوا البرابرة، وعاش الإمبراطور» وذلك بهدف الإطاحة بسيطرة طوكوجاوا والحكام العسكريين وقد نجحت تلك الحركة الشعبية العارمة في استعادة الحكم الإمبراطوري عام 1868 وفرضت الاستقالة على طوكوجاوا وتم التنازل عن الحقوق في الإقطاعيات للحكومة الجديدة عام 1869 التي أنشأت بدورها نظام الولايات عام 1871. ثورة الميجي هي نتاج التفاعل بين العوامل المحلية والعوامل الخارجية وكان العنصر الحاسم هو طبيعة نظام «باكوهان» الذي اختلف عن الإقطاع في أوروبا وعن نظام الحكم المركزي (الاستبداد الشرقي) في دول آسيا القديمة، وقد عبر سقوط نظام طوكوجاوا والشوجون عن مدى عمق أزمة الإقطاع، ولم تقاوم الإقطاعيات التي كانت تعتمد على حماية الشوجون العملية الإصلاحية تلك بل وأبدت استعدادها لدعم قيام نظام مركزي واحد في البلاد يحتل فيه الإمبراطور مركز الصدارة كمثل لوحدة البلاد والأمة بدلاً من الشوجون، بل ووافقت على إلغاء نظام الإقطاعيات نظير قيام حكومة الميجي بتولي مسؤولية ديون الإقطاعيات وضمان الفوائد المالية للإقطاعيين وطبقة الساموراي ذات الرتب العالية وذلك عن طريق تحويل المزايا التي كانوا يحصلون عليها إلى سندات حكومية، وقد سبقت اليابان بذلك دول الغرب حين قامت بإلغاء الطبقات الاجتماعية إلغاء شبه تام، الأمر الذي سمح بالبدء في إرساء أسس تحديث ونهضة اليابان ومسايرتها لطابع العصر. الرأسمالية لم تنشأ في اليابان من المستويات الدنيا (المنشأة الخاصة) كما هو الحال في انجلترا وفرنسا وغيرها من البلدان الغربية الرأسمالية، كما لم تنشأ (كرأسمالية تابعة) نتيجة احتلال من قبل المراكز الغربية مثل ما حصل في معظم بلدان آسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية، بل إن حكومة الميجي (من فوق) فرضتها بشكل مباشر وغير مباشر، ونشير في هذا الصدد إلى إرسال الحكومة اليابانية بعثة أو اكورا إلى أوروبا والولايات المتحدة للاطلاع على التجربة والخبرة الغربية في المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية والعسكرية والإدارية والتنظيمية، كما أرسلت بعثة مماثلة إلى مصر للاطلاع على تجربة إصلاحات محمد علي. وفي عام 1873 أصدرت الحكومة اليابانية قانون التجنيد الإجباري وقانون ضريبة الأطيان، ووضعت نظاماً مصرفياً، وعمدت إلى إقامة المصانع التي تعتمد على المكننة والتي تديرها الدولة وخلقت المؤسسات وأدخلت التكنولوجيا والثقافة وقد رفعت الحكومة شعار الحضارة والتنوير وقالت في هذا الصدد إنه إذا ما أرادت اليابان مسايرة طابع العصر ومنافسة الغرب فعليها إدخال المؤسسات والثقافة التي كانت بمثابة القاعدة التي بنى عليها الغرب قوته وحقق بها تقدمه ومنجزاته الحضارية. ولم تمر هذه الإصلاحات بدون عراقيل ومصاعب بل وإخفاقات أيضاً، حيث واجهت تصاعد الحركة المطالبة بالحقوق والحريات في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات وقد تحولت هذه الاحتجاجات إلى حركة شعبية واسعة تضم ثلاثمائة ألف من مالكي الأراضي وأصحاب الصناعة والمزارعين، وقد وضعت هذه الحركة برنامجاً قومياً تتحدد خطوطه الأساسية في تشكيل دستور وبرلمان (دايت) منتخب وخفض ضريبة الأطيان وإعادة النظر في المعاهدات غير العادلة وغير ذلك من المطالب، ورغم أن هذه الحركة الشعبية قد منيت بالهزيمة في عام 1884 بسبب الإجراءات العنيفة التي استخدمتها الدولة ضدها والانقسام الذي نخر صفوفها إلا أنها أرغمت الدولة على إعادة النظر في سياساتها فأقدمت على وضع دستور للبلاد (1889) وإنشاء جمعية وطنية (1890) وتجميد زيادة الضريبة التي فرضت عام 1880 على الأطيان مما ساعد على التخفيف من العبء الواقع على المزارعين وترك أثره المباشر على زيادة السلع الريفية والزراعية، كما زادت معدلات التصنيع في القرى وبدأ تراكم رأس المال لدى أصحاب الأراضي في الوقت الذي تضاعف عدد الفلاحين الأُجَراء الذين لا يملكون سوى قوة عملهم، وأصبحت ضريبة الأطيان الجديدة القاعدة التي قامت عليها الرأسمالية وترافق ذلك مع إلغاء الإقطاعيات واستبدال نظام الولايات بها علما بأن بقايا العلاقات الإقطاعية في تلك المرحلة ظلت تقوم بدور هام في الحياة الاقتصادية والسياسية لليابان، وتقاسمت البرجوازية الاحتكارية الفتية السلطة مع طبقة الملاك العقاريين.
الخميس 15 مايو 2008 - 13:52
