نص السؤال:
سائل يسأل عن الوضوء، والاستنجاء، وإذا أحدث الرجل فهل يجب عليه غسل عورته، أو يكتفي بغسل أطرافه فقط؟.
الجواب:
الوضوء غسل الأعضاء الأربعة: الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين على وجه الخصوص، وأما غسل الفرج فلا يسمى وضوءًا، وإنما يسمى استنجاء .
وهذا الرجل إن كان حدثه بخروج الريح فقط فلا يجب عليه استنجاء ولا استجمار، وإنما يكتفي بالوضوء؛ وهو غسل أطرافه .
وإن كان حدثه بخروج البول وحده وجب عليه أن يستجمر بأحجار ونحوها، أو يستنجي بالماء في موضع الخارج فقط، وهو الذكر دون الدبر، فلا يجب عليه غسل الدبر إلا إن خرج منه خارج غير الريح، ولهذا قال الفقهاء: ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح .
وقد رأيت لابن القيم ـ رحمه الله ـ كلامًا في "إعلام الموقعين" يتعلق بهذا، أحببت نقله هنا؛ إتمامًا للفائدة . قال:
وأما إيجابه لغسل المواضع التي لم يخرج منها الريح، وإسقاطه غسل الموضع الذي خرجت منه فما أوفقه للحكمة! وما أشده مطابقة للفطرة! فإن حاصل السؤال: لمَ كان الوضوء في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة، مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين؟ وهذا سؤال معكوس من قلب منكوس، فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة، وكان أحقها به إمامها ومقدمها في الذكْر والفعل وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب، وبعده اليدان، وهما آلة البطش، والتناول, والأخذ، فهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه . ولما كان الرأس مجمع الحواس، وأعلى البدن وأشرفه، كان أحق بالنظافة، لكن لو شرع غسله في الوضوء؛ لعظمت المشقة، ولاشتدت البلية، فشرع مسح جميعه، وإقامة المسح مقام غسله؛ تخفيفًا ورحمة، كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين .
ولعل قائلاً يقول: وما يجزئ مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة؟ ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء ـ امتثالاً لأمر الله ـ وطاعة له وتعبدًا، يؤثر في نظافته وطهارته، ما لا يؤثر غسله بالماء والسدر بدون هذه النية، والتحاكم في هذا إلى الذوق السليم، والطبع المستقيم، كما أن مَعْكَ الوجه ـ أي دلكه بالتراب ـ امتثالاً للأمر، وطاعة، وعبودية تكسبه وضاءة، ونظافة، وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين . ولما كانت الرجلان تمسان الأرض غالبًا، وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقية الأعضاء، كانت أحق بالغسل، ولم يوفق للفهم عن الله ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل[20]، فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس .
وأما من حيث المعنى، فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله، وبها يُعصى الله سبحانه، ويطاع؛ فاليد تبطش، والرجل تمشي، والعين تنظر، والأذن تسمع، واللسان يتكلم، فكان في غسل هذه الأعضاء امتثالاً لأمر الله وإقامة لعبوديته ما يقتضي إزالة ما لحقها من درن المعصية ووسخها .
وقد أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه، حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه"[21] عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، حدثني عن الوضوء، قال: ((ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض، ويستنشق، فينتثر، إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه . ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه، إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى، فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرَّغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)) .