كانت اسمها قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم «برة بنت الحارث» غير أن النبي صلى الله عليه وسلم غيّر اسمها إلى
«جويرية» بعد ذلك، وهي من قبيلة بني المصطلق، وهي قبيلة عربية عريقة مشهورة.
هذه القبيلة أعدت عدتها للهجوم على المسلمين في المدينة، فجهزت جيشاً كاملاً لذلك، فوصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم
عن طريق أحد العيون التي كان ينظر بها صلى الله عليه وسلم خارج المدينة، وقبل اكتمال جيشهم وتجمعه.. أعد عليه الصلاة والسلام
جيشاً خرج به بنفسه صلى الله عليه وسلم، وانطلقوا إلى قبيلة بني المصطلق فباغتهم في ديارهم قبل خروجهم، واستطاع جيش المسلمين
أسر جميع أفراد القبيلة ما عدا سيدهم الحارث، ولم يقتل من المسلمين في هذه الغزوة إلا رجل واحد بالخطأ، وقتل من القبيلة عشرة رجال.
وكان من بين هؤلاء الأسرى برّة بنت الحارث زعيم القبيلة، ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسرى على أفراد المسلمين يديرون
شؤونهم ريثما يصلون إلى المدينة، وكانت برّة عند ثابت بن قيس رضي الله عنه يتولى شأنها.
وكانت برّة قد سمعت بانتشار الإسلام وتعاليمه، وما جاء به من إنصاف العبيد والمملوكين، وأن الإسلام جاء لتحريرهم دونما بخس للمماليك
بالثمن أو غير ذلك، وأنه قد سنّ المكاتبة التي يستطيع المملوك من خلالها شراء حرية نفسه، وأنه كان يريد إلغاء الرق، إلى غير ذلك.
فاستغلت برّة هذا القرار العظيم في الإسلام، فطلبت المكاتبة من ثابت بن قيس، وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره بطلبها للمكاتبة،
وفي هذه الأثناء كان أبوها قد جاء، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، ابنتي برّة بنت ملك، ولا يُسبى مثلها، وقد جئت بفدائها.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد سمع كلامها، فوجد منها ماأعجبه من وفور عقلها ونماء ذكائها ورجاحة فطنتها، فأراد أن يفعل ما هو خير من ذلك،
فكلمها، فوجد فيها الاستعداد الفطري للإسلام.. فقال لأبيها: نخيرها ونسألها هل تريد الرجوع معك؟ أم تريد أن أحررها وأتزوجها؟
فأعملت رأيها.. فجال نظرها في أخلاق المسلمين ومعاملاتهم وعيشتهم فوجدت فيه ما أعجبها فأحبته. ثم فاجأت أباها باختيار النبي صلى الله عليه وسلم
ووافقت على الزواج منه، فحررها رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير اسمها إلى «جويرية» فأصبح هذا الاسم المشهور لها في التاريخ، وتزوجها
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان سبب زواجه صلى الله عليه وسلم من جويرية أنه كان يريد إطلاق كامل هذه القبيلة ولكن دونما عداوة منهم للمسلمين، إنماكان يريد أن يكسب صداقة القبيلة،
فلما تزوجها.. راح المسلمون يقولون: أصهار النبي صلى الله عليه وسلم عبيد!!
فبدأ كل واحد منهم يحرر من عنده، فأطلقت القبيلة كاملة، ففوجئت هذه القبيلة وفوجئ الحارث سيدهم بذلك، فهذه المعاملة لا يعرفها العرب، أطلق المسلمون
الأسرى بالجملة! وبدون مطالبات ولاشروط، فدخلوا كلهم في دين الله أفواجاً، فكانت جويرية سبباً في إسلامهم ودخولهم الدين العظيم.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فما أعلم امرأة أكثر بركة على قومها من جويرية.
وعاشت رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت شديدة الحب للعبادة جاء في الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بعد صلاة
الفجر فإذا هي تسبّح ، ثم ذهب لبعض شؤونه، وعاد إليها قبل الظهر فإذا هي على نفس حالتها ، فقال لها: «أما زلت على المجلس الذي تركتك عليه ؟ »
فقالت : نعم . قال : « ألا أعلمك كلمات إذا قلتها كانت خيراً لك من عبادتك هذه ؟ » قالت : نعم يا رسول الله . قال : « قولي : سبحان الله وبحمده عدد خلقه
ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ، تقولين ذلك ثلاث مرات » رواه مسلم .
فليقرأ هذه القصة دعاة تحرير المرأة اليوم ، الذين يتشدقون بأن المرأة يجب أن تطلق حرياتها من غير قيد ، ويجب أن تمارس دورها الكامل في الحياة ،
وهم بذلك لا يقصدون إلا متاعاً رخيصاً من ورائها ، وإخراجها من خبء بيتها ، لا لتقوم بدورها الاجتماعي الحقيقي ، بل لتكون مسرحاً مبتذلاً تعرض فيه
بضاعة غير مزجاة على الملأ والناس ، فانظر معي - عزيزي القارئ - أين وصلت المرأة الغربية من المجتمع الغربي، انظر إلى مكانتها بعد أن نالت جميع
حرياتها المزعومة ، وحقوقها التي كانت محرومة منها ، أليست المرأة اليوم هي دعاية رخيصة لكل إعلان تجاري ؟! ألا تستغلها شركات الدعاية والإعلان بكل
وقاحة وتحاول أن تظهر من مفاتنها ومبارجها أكثر مما تخفي ؟! ما الغرض من هذا ؟! ألم تتحول المرأة إلى سلعة تتبادلها المؤسسات والشركات لتروّج بها بضائعها
جيدة كانت أم رديئة؟! ثم انظر معي كم تفشت في المجتمعات الغربية تجارة النساء، وكم وكم من النساء فقدن كل ما يملكن من شرف وعفة، وقد أصبحن شيئاً يرتاده
الرجال بلا رحمة أو شفقة ؟! بل انظر إلى بعض الدول وقد أقرت في قوانينها تجارة البغاء ، وأعطت الباغيات تراخيص وشهادات رسمية لمزاولة مهنتهن الدنيئة !!،
أهكذا تكون كرامة المرأة ؟! أهذه هي الحرية والمساواة ؟! أن تكون المرأة سلعة وتجارة لشهوة الرجل ؟! إننا نرى أن هذا المجتمع المتفسخ يمارس أبشع الظلم بحق
المرأة التي كرّمها الله تعالى ، ونأى بها عن مواطن الذل والاحتقار ، التي ينظر بها المجتمع إليها .
انظر معي إلى زوجة النبي صلى الله عليه وسلم «جويرية» لقد كانت سبب إسلام قومها وهدايتهم ، ألم تلعب هذه المرأة أعظم الأدوار في حياة قومها ؟!
ألم يكن لها الفضل الأكبر في إنقاذ قومها وهي امرأة من نسائهم ؟! أليست هذه من حريات المرأة التي يريدها اليوم كل دعاة حقوق المرأة ؟! أليست هذه المشاركة
الفعالة والحقيقية للمرأة في الحياة السياسية ؟!
إن «جويرية» رضي الله عنها مثل أعلى لكل امرأة من نسائنا لتكون قدوة صالحة لأهلها ومجتمعها، فيمكن أن تكون أي امرأة مثل جويرية، وتكون سبباً لهداية كثير من الناس، ورب امرأة واحدة كانت سبباً لهداية أسرة كبيرة، أو مجتمع بأسره!
إن كلمة الفصل تبقى لأولئك الذين تجردوا من كل تعصب وتزمّت ليقولوها، وهي الكلمة التي يجب أن تقال بحق، فتنصف الإسلام من ممارسات مغلوطة اليوم، فالإسلام بريء مما يفعله كثير من أهل هذا الزمان، ممن فرضوا على المرأة قيوداً وحدوداً لم يأت بها الإسلام، ولن تجد لها في شرع الله سنداً أو دليلاً.
إننا لا ندعو إلا إلى تطبيق شرع الله كما أنزله الله تعالى على رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن بفهم صحيح مستمد من القصص القرآني العظيم، ومن السيرة الطيبة الطاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيه الطيبين، وفي هذا القصص أروع الأمثلة، وأوضح الدلائل، التي لن يتوه عنها قلب مسترشد، أو يغفل عنها عقل باحث، وهي في النهاية تعكس صورة حقيقية لإسلامنا العظيم، التي ينبغي أن نضعها نصب أعيننا، وأمام عقولنا، ونعمل على تطبيقها، لتنهض أمتنا من جديد، ولتعود إلى صدارة الأمم التي قال الله تعالى عنها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.